الأحد، 12 فبراير 2012

سر النفي بلن ، و لا


قال الله عز وجل في حق اليهود :﴿ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ (البقرة:94-95) . وقال سبحانه في الآية الأخرى :﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾(الجمعة:6-7) ، فنفى سبحانه تمنيهم الموت مرة بـ( لن ) ، ومرة أخرى بـ( لا ) .

ولسائل أن يسأل : لم أتى هذا النفي في سورة البقرة بـ( لن ) ، وأتى في سورة الجمعة بـ( لا ) ، وكلاهما إخبار عن شيء واحد ، وهو نفي تمني اليهود الموت ؟ وقبل الإجابة عن ذلك نقول بعون الله وتعليمه :

أولاً- كان اليهود يدَّعون في جملة ما يدَّعون أن لهم الدار الآخرة خالصة عند الله تعالى ، وأنهم أولياء لله من دون الناس ، وكان النصارى بقولون مثل قولهم هذا ، وقد أخبر الله تعالى بذلك عن الطائفتين ، فقال جلَّ ثناؤه في آية :﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى (البقرة :111) . وقال في آية أخرى :﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ (المائدة:18) .

ولما أراد الله عز وجل أن يبطل ادِّعاء الطائفتين ويبين فساد أقوالهم ويفضح أمرهم ، أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو وفد نجران من النصارى إلى المباهلة بقوله سبحانه :﴿ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (آل عمران:61) . والمباهلة : الملاعنة ، وهي أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء ، فيقولوا لعنة الله على الظالم منا . فلما دعاهم إليها ، أبوا منها ورضوا بدفع الجزية . وأما اليهود فأمره سبحانه أن يدعوهم إلى تمني الموت ، بقوله :﴿ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ

وللمفسرين في هذا التمني قولان : أحدهما : قول ابن عباس :« إنهم أمروا بأن يَدْعُوَ الفريقان بالموت على الفرقة الكاذبة » . والثاني : أن يقولوا :« ليتنا نموت » . وذهب ابن كثير إلى أن قول ابن عباس قي تفسير الآية هو المتعين ، وهو الدعاء على أي الفريقين أكذب منهم ، أو من المسلمين على وجه المباهلة . وذهب ابن عادل في تفسير اللباب إلى أن القول الثاني أولى ؛ لأنه أقرب إلى موافقة اللفظ . وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في اليهود :« لو تمنوا الموت ، لغصَّ كل إنسان بريقه فمات مكانه ، وما بقي على وجه الأرض يهوديٌّ إلا مات » ، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر :« لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار ، ولو خرج الذين يُباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً » .

والمراد من تمنيهم الموت أن يتمنوه بألسنتهم ، لا بقلوبهم ؛ لأن التمني في لغة العرب لا يعرف إلا بما يظهر بالقول ؛ كما أن الخبر لا يعرف إلا بما يظهر بالقول . وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :« لو تمنَّوا الموت لشرقوا به ولماتوا » . أي : لو تمنوه بقلوبهم لأظهروه بألسنتهم ، ردًّا على النبي صلى الله عليه وسلم وإبطالاً لحجّته .

وقد بلغت الأخبار الواردة في أنهم ما تمنوا الموت مبلغ التواتر ، وما ذلك إلا لأنهم كانوا موقنين بصدق النبي عليه الصلاة والسلام ، فعلموا أنهم لو تمنوا الموت ، لماتوا من ساعتهم ولحقهم الوعيد . فانكشف بذلك لمن كان مشكلاً عليه أمر اليهود يومئذ كذبهم وبهتانهم وبغيهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وظهرت حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجة أصحابه عليهم ، ولم تزل- والحمد لله- الحجة ظاهرة عليهم ، وعلى غيرهم من الملاحدة والكفرة والمشركين إلى يوم الدين . ومن هنا كان هذا الإخبار من الله تعالى عن اليهود من المعجزات التي دلَّت على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وصدق رسالته ؛ لأنه إخبار بالغيب ، والإخبار بالغيب معجز .

ثانيًا- وظاهر قوله تعالى في البقرة ﴿ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ﴾ ، وقوله تعالى في الجمعة ﴿ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا ﴾ يدل على أن بين القولين فرقًا في اللفظ ، فهل ينبني على هذا الفرق بينهما فرق في المعنى ؟ ولعلماء النحو والتفسير في الإجابة عن ذلك والتعليل له قولان مشهوران :

القول الأول : أنه لا فرق بين القولين إلا من حيث الإعراب ، وأما من حيث المعنى فلا فرق بينهما . وعلى هذا القول جمهور علماء النحو والتفسير ، وهو مبني على أن ( لن ) عندهم أخت ( لا ) في نفي الأفعال المستقبلة عند الإطلاق ، بدون دلالة على تأكيد أو تأبيد ، فيستوي بذلك عندهم المنفي بهما . قال أبو حيان في البحر المحيط :« وهو الصحيح » ، وتابعه في ذلك الزركشي في البرهان . وإلى هذا القول ذهب الدكتور محمد هداية في برنامج ( طريق الهداية ) الذي تبثُّه إحدى القنوات الفضائية ، فقال :« والفرق بين ( لَا يَتَمَنَّوْنَهُ ) ، و( لَن يَتَمَنَّوْهُ ) هو في الإعراب » .

وعلى هذا يكون نفي تمني الموت تارة بـ( لن ) ، وتارة أخرى بـ( لا ) من باب ( التفنن في التعبير ) ، وهذا ما صرح به الألوسي عند تأويل قوله تعالى :﴿ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا ﴾ ، فقال في ذلك ما نصُّه :« وجاء نفي هذا التمني في آية أخرى بـ( لن ) ، وهو من باب التفنن ، على القول المشهور ، في أن كلاً من ( لا ) ، و( لن ) لنفي المستقبل من غير تأكيد » .

والقول الثاني : أن ( لن ) ، و( لا ) ، وإن كانتا أختين في نفي الأفعال المستقبلة ، وأنه لا فرق بينهما في ذلك ، إلا أن في ( لن ) تأكيدًا وتشديدًا ليس في ( لا ) ، فأتى نفي تمنيهم الموت مرة بلفظ التأكيد ، ومرة بغير لفظه . وإلى هذا القول ذهب الزمخشري ، وتابعه الفخر الرازي ، وعلل مع صاحب المنتخب لنفي الأول يـ( لن ) ، والثاني بـ( لا ) بأن اليهود ادعوا في سورة البقرة أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس ، وادعوا في سورة الجمعة أنهم أولياء لله من دون الناس . ودعواهم الأولى أعظم من دعواهم الثانية ؛ لأن السعادة القصوى فوق مرتبة الولاية ؛ لأن الثانية تراد لحصول الأولى . ولما كانت ( لن ) أبلغ في النفي من ( لا ) ، جعلها الله تعالى لنفي الأعظم ؛ لأنها أقوى الألفاظ النافية ، على حد قول الرازي .

ويتفق الرازي والزمخشري في أن كلاً من ( لن ) ، و( لا ) لنفي المستقبل ، وأن ( لن ) أشد تأكيدًا في نفيه من ( لا ) ، أو أقوى وأبلغ ، ثم يختلفان في أن ( لن ) عند الرازي لتأبيد النفي في الدنيا ، وعند الزمخشري لتأبيد النفي في الدنيا والآخرة . وعليه فإن قوله تعالى :﴿ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ﴾ عند الرازي يكون نفيًا لتمني اليهود الموت أبد الحياة الدنيا ، وعلى هذا مذهب أهل السنة . وأما عند الزمخشري فيكون نفيًا لتمنيهم الموت أبد الحياة الدنيا والآخرة ، وعلى هذا مذهب المعتزلة .

ثالثًا- أما القول بأن في ( لن ) تأكيدًا وتشديدًا ليس في ( لا ) ، وأنها أبلغ في النفي وأقوى من ( لا ) ، فهو دعوى بعيدة لا تقوم على دليل ، ويحتاج كما قال أبو حيان في رده على الزمخشري :« إلى نقل عن مستقري اللسان » . وأما قولهم :« تقول : لا أفعل ، فإذا أردت تأكيد النفي ، قلت : لن أفعل » فلا يستقيم إلا إذا ثبت أن كلاً من ( لا ) ، و( لن ) موضوع لنفي المستقبل ، وأنه لا فرق بينهما في نفي الأفعال المستقبلة .. وتحقيق القول في ذلك :

أن ( لا ) ينفَى بها الحال والمستقبل ، و( لن ) ينفَى بها المستقبل خاصَّة . تقول :( لا يفعل ) إذا أردت نفي فعله في الحال والمستقبل ، وتقول :( لن يفعل ) ، إذا أردت نفي فعله في المستقبل دون الحال . فإذا قيل : قوله تعالى :﴿ فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (مريم:26) يدل على نفي الحال ؛ لأنه مقيَّد بـ( اليوم ) ، قيل : المراد بهذا النفي : المستقبل ، بدليل مجيئه في سياق الجملة الشرطية ؛ وهي قوله تعالى :﴿ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (مريم:26) .

وذهب الشيخ السهيلي في نتائج الفكر في النحو ، وتبعه ابن قيم الجوزية في بدائع الفوائد إلى أن من خواصِّ ( لن ) تخليصها الفعل للاستقبال ، بعد أن كان محتملا للحال ، فأغنت عن السين وسوف . وهذا يعني : أن ( يفعل ) يحتمل الحال والاستقبال ، وأن ( سيفعل ) مخلَص للاستقبال ، ونفي الأول :( لا يفعل ) ، ونفي الثاني :( لن يفعل ) . وهذا ما نصَّ عليه سيبويه في باب ( نفي الفعل ) ، فقال :« وإذا قال : سوف يفعل ، فإنَّ نفيه : لن يفعل » . وحكى عن الخليل قوله في قولهم :( سيفعل ) ، فقال :« وزعم الخليل أنها جواب : لن يفعل » . وليس في ذلك ما يشير إلى أن السين في :( سيفعل ) ، للتأكيد ، فجوابها ( لن يفعل ) كذلك ؛ كما فهم ذلك بعضهم من قول سيبويه .

وأما ما ذهب إليه سيبويه في قول آخر من أنه « إذا قال : هو يفعل ، ولم يكن الفعل واقعًا ، فنفيه : لا يفعل » ، فظاهره أن ( لا يفعل ) نفي للمستقبل دون الحال ، وهذا ما أشكل فهمه على الجمهور والزمخشري ، فزعموا أن ( لا ) مثل ( لن ) في نفي المستقبل . وقد أجيب عنه بأنه إنما نبَّه إلى الأوْلى في رأيه ، والأكثر في الاستعمال ، بدليل أنه نفسه قد ذكر أن من أدوات الاستثناء ( لا يكون ) ، ولا يمكن حمل النفي فيه على الاستقبال ؛ لأنه بمعنى ( إلا ) ، فهو للإنشاء ، وإذا كان للإنشاء ، فهو حال . وهذا يعني : أن ( لا يفعل ) يصلح للحال والاستقبال ، كما ذكرت سابقًا ، وهو مذهب الأخفش والمبرد ، وتبعهما ابن مالك . قال ابن قيم الجوزية في بدائع الفوائد :« وإذا نفي المضارع بـ( لا ) ، فهل يختص في الاستقبال ، أو يصلح له وللحال ؟ مذهبان للنحاة :

مذهب الأخفش : صلاحيته لهما ، ووافقه ابن مالك وزعم أنه لازم لسيبويه ، محتجًّا بإجماعهم على صحة : قام القوم لا يكون زيد ، فهو بمعنى : إلا زيدًا ؛ ومن ذلك قولهم : أتحبه أم لا تحبه ؟ لا ريب أنه بمعنى الحال . وقولهم : ما لك لا تقبل . قال تعالى :﴿ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ (المائدة:84) ، و﴿ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ ﴾(النمل:20) ، و﴿ وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي (يس:22) .

وزعم الزمخشري أنه يتخلص بها للاستقبال آخِذًا من قول سيبويه :( وإذا قال : هو يفعل ، ولم يكن الفعل واقعًا ، فإن نفيه : لا يفعل ) . وهذا ليس صريحًا في اختصاصه بالمستقبل ؛ فإن ( لا ) تنفي الحال والاستقبال ، وهو لم يقل : لا تنفي الحال ؛ وإنما أراد سيبويه أن يفرق بين نفي الفعل بـ( ما ) ، ونفيه بـ( لا ) في أكثر الأمر ، فقال :( وإذا قال : هو يفعل . أي : هو في حال فعل ، كان نفيه : ما يفعل . وإذا قال : هو يفعل ، ولم يكن الفعل واقعًا ، فإن نفيه : لا يفعل ) . ومعلوم أن ( ما ) لا يخلص الفعل المنفي بها للحال ، وسيبويه قد جعلها في فعل الحال ؛ كـ( لا ) في فعل الاستقبال ، فعلم أنه إنما أراد الأكثر من استعمال الحرفين » .

فتبين بذلك أن ( لا يفعل ) يصلح لنفي الحال والمستقبل ، وأن ( لن يفعل ) خاص بنفي المستقبل ، وإذا كان كذلك ، فليس في ( لن ) تأكيدًا وتشديدًا ليس في ( لا ) ، وأنها أقوى في النفي من ( لا ) وأبلغ .

وأما القول بأن ( لن ) لتأبيد النفي فهو موضع نزاع بين علماء العربية ، فمذهب الجمهور أنها لا تفيد التأبيد مطلقًا ، وأنها لمجرد النفي عن الأفعال المستقبلة ، مثلها في ذلك مثل ( لا ) ، وأن التأبيد وعدمه يؤخذان من دليل خارج . ومذهب الزمخشري والمعتزلة أنها تفيد التأبيد مطلقًا ، وزعموا أنه منقول عن أهل اللغة ، وبنوا على ذلك مذهب الاعتزال في قوله تعالى لموسى عليه السلام :﴿ لَنْ تَرَانِي (الأعراف:143) ، فزعموا أنه دليل عن نفي الرؤية في الدنيا والآخرة . وهذا مذهب معتزلي فاسد ترده النصوص القرآنية الصريحة ، والأحاديث الصحيحة التي لا مطعن في ثبوتها ، والتي تنصُّ صراحة على ثبوت الرؤية في الآخرة . وأما ادعاؤهم بأن ( لن ) للتأبيد منقول عن أهل اللغة فباطل .

قال الرازي عند تفسير آية الأعراف السابقة :« ما نقل عن أهل اللغة بأن ( لن ) للتأبيد ، قال الواحدي رحمه الله : هذه دعوى باطلة على أهل اللغة ، وليس يشهد بصحته كتاب معتبر ، ولا نقل صحيح . وقال أصحابنا : الدليل على فساده قوله تعالى في صفة اليهود :﴿ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ﴾ ، مع أنهم يتمنون الموت يوم القيامة » .

ولهذا حمل المعارضون لهم من أهل السنة ( لن ) في قوله تعالى :﴿ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ﴾ ، وقوله :﴿ لَنْ تَرَانِي على تأبيد النفي في الحياة الدنيا . قال ابن كثير عند تفسير آية الأعراف :« وقد أشكل حرف ( لن ) هاهنا على كثير من العلماء ؛ لأنها موضوعة لنفي التأبيد ، فاستدل به المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة . وهذا أضعف الأقوال ؛ لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة . وقيل : إنها لنفي التأبيد في الدنيا ، جمعًا بين هذه الآية ، وبين الدليل القاطع على صحة الرؤية في الدار الآخرة » .

وقال الشيخ ابن عطية :« وقوله عز وجل :﴿ لَنْ تَرَانِي نصٌّ من الله تعالى على منعه الرؤية في الدنيا ، و( لن ) تنفي الفعل المستقبل . ولو بقينا مع هذا النفي بمجرده ، لقضينا أنه لا يراه ( موسى ) أبدًا ، ولا في الآخرة ؛ لكن ورد من جهة أخرى بالحديث المتواتر أن أهل الإيمان يرون الله تعالى يوم القيامة ، فموسى- عليه السلام- أحرى برؤيته » .

وقال الزجاج :« في هذه الآية أعظم حجة وأظهر دلالة على صحة رسالته صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه قال لهم : فتمنوا الموت ، وأعلمهم أنهم لن يتمنوه أبداً ، فلم يتمنه واحد منهم . وفي هذه الآية دليل أن ( لن ) لا تدل على التأبيد ؛ لأنهم يتمنون الموت في الآخرة ، خلافًا لقول المعتزلة في قولهم : لن تراني . ويقال : إن قوله ( لن ) إنما يقع على الحياة الدنيا خاصة ، ولم يقع على الآخرة ؛ لأنهم يتمنون الموت في النار ، إذا كانوا في جهنم » .

ولكن ذلك كله لا ينافي أن تكون ( لن ) للتأبيد الذي يفيد استغراق النفي في جميع أجزاء الزمن المستقبل ؛ كما تكون ( لا ) للتأبيد الذي يفيد استغراق النفي في جميع أجزاء الزمن الحاضر والمستقبل ؛ وذلك في كل موضع استعملتا فيه ؛ سواء قيِّد النفي بهما بـ( أبدًا ) ، أو لم يقيد . وإلى هذا ذهب الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان ، فذكر أن ( لن ) تفيد تأبيد النفي ، في موضع لم يعارضها فيه نصٌّ ، وذكر أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذرٍّ :« ولن تجزئ عن أحد بعدك » صريح في استمرار منع الإجزاء عن غيره ؛ لأن لفظة ( لن ) تدل على نفي الفعل في المستقبل من الزمن ، فهي دليل صريح على استمرار عدم الإجزاء عن غيره في المستقبل من الزمن . قال :« ويؤيد ذلك أن قوله : عن أحد بعدك نكرة في سياق النفي ، فهي تعم كل أحد في كل وقت كما ترى » .

وأما القول بأنه لا فرق في النفي بين ( لا ) ، و( لن ) فهو مردود - كما تقدم- بأن ( لا ) تنفي الحال والمستقبل ، وأن ( لن ) تنفي المستقبل فقط ؛ وإذ ثبت ذلك فإن ( لا ) تكون لنفي ما طال وبعُد ، و( لن ) تكون لنفي ما قصُر وقرُب ، فلا يمتد النفي بها امتداده في ( لا ) . وسر ذلك كما قال ابن الزملكاني في التبيان :« أن الألفاظ مشاكلة للمعاني ، و( لا ) آخرها الألف ، والألف يمكن امتداد الصوت بها ، بخلاف النون ، فطابق كل لفظ معناه » .

وهذا القول خلاف ما ذهب إليه الزمخشري والمعتزلة من القول بأن ( لن ) لتأبيد النفي على الإطلاق ، وهو ألطف منه وأحسن ، وهو أصح مما ذهب إليه الجمهور من القول بأن ( لا ) مثل ( لن ) في نفي الأفعال المستقبلة ، وإليه ذهب الشيخ السهيلي ، فذكر في نتائج الفكر في النحو من خواصِّ ( لن ) :« أنها تنفي ما قرب ، ولا يمتد معنى النفي فيها كامتداد معنى النفي في ( لا ) ، إذا قلت : لا يقوم زيد أبدًا . فـ( لا ) هي لامٌ بعدها ألفٌ ، يمتدُّ بها الصوت ما لم يقطعه تضييق النفَس ؛ فآذن امتداد لفظها بامتداد معناها ، و( لن ) يعكس ذلك .. فتأمله ، فإنه معنى لطيف وغرض شريف » .

واستطرد الشيخ السهيلي قائلاً :« ألا ترى كيف جاء في القرآن البديع نظمه الفائق على كل العلوم علمه :﴿ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا ﴾ بحرف ( لا ) ، في الموضع الذي اقترن فيه حرف الشرط بالفعل ، فصار من صيغ العموم ، فانسحب على جميع الأزمنة ، وهو قوله عز وجل :﴿ إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ ﴾ ؛ كأنه يقول : متى زعموا ذلك لوقت من الأوقات أو زمن من الأزمان ، وقيل لهم : تمنوا الموت ، فلا يتمنونه أبدًا ، وحرف الشرط دل على هذا المعنى ، وحرف ( لا ) في الجواب بإزاء صيغة العموم ، لاتساع معنى النفي فيها .

وقال تعالى في سورة البقرة :﴿ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً ﴾ ، فقصَّر من سعة النفي وقرَّب ؛ لأن قبله في النظم :﴿ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ ﴾ ، وليست ( إن ) ههنا مع ( كان ) من صيغ العموم كما كانت مع ( زعمتم ) في آية الجمعة ؛ لأن ( كان ) ليست بدالة على الحدث ؛ فكأنه يقول عز وجل : إن كانت وجبت لكم الدار الآخرة ، وثبتت لكم في علم الله تعالى ، فتمنوا الموت الآن . ثم قال في الجواب :﴿ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً ﴾ ، فانتظم معنى الجواب بمعنى الخطاب في الآيتين . وليس في قوله :( أَبَدًا ) ما يناقض ما قلناه ، فقد يكون ( أَبَدًا ) بعد فعل الحال . تقول : زيد يقوم أبدًا ، ويصلي أبدًا » .

وذكر ابن قيم الجوزية في بدائع الفوائد قول الشيخ السهيلي ، وعقَّب عليه قائلاً :« ومن أجل ما تقدم من قصور معنى النفي في ( لن ) ، وطوله في ( لا ) يعلم المُوفَّقُ قصورَ المعتزلة في فهم كلام الله تعالى ، حيث جعلوا ( لن ) تدل على النفي على الدوام ، واحتجوا بقوله :﴿ لَنْ تَرَانِي (الأعراف:143) ، وعلمت بهذا أن بدعتهم الخبيثة حالت بينهم ، وبين فهم كلام الله كما ينبغي .. وهكذا كل صاحب بدعة تجده محجوبًا عن فهم القرآن » .

وأضاف ابن قيم الجوزية قائلاً :« وتأمل قوله تعالى :﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ (الأنعام:103) ، كيف نفى فعل الإدراك بـ( لا ) الدالة على طول النفي ودوامه ؛ فإنه لا يدرك أبدًا . وإن رآه المؤمنون فأبصارهم لا تدركه ، تعالى عن أن يحيط به مخلوق .. وكيف نفى الرؤية بـ( لن ) ، فقال :﴿ لَنْ تَرَانِي (الأعراف:143) ؛ لأن النفي بها لا يتأبد ، وقد كذبهم الله في قولهم بتأبيد النفي بـ( لن ) بقوله :﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ﴾(الزخرف:77) ؛ فهذا تمن للموت ، فلو اقتضت ( لن ) دوام النفي ، تناقض الكلام » .

ثم ذكر أن اقتران قوله تعالى :﴿ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ﴾ بالتأبيد لا ينافي تمنيهم الموت في النار ؛ لأن التأبيد على ما قال :« قد يراد به : التأبيد المقيد ، والتأبيد المطلق . فالمقيد كالتأبيد بمدة الحياة مقيد كقولك : والله لا أكلمه أبدًا ، والمطلق كقولك : والله لا أكفر بربي أبدًا . وإذا كان كذلك ، فالآية إنما اقتضت نفي تمني الموت أبد الحياة الدنيا ، ولم يتعرض للآخرة أصلاً ؛ وذلك لأنهم لحبهم الحياة وكراهتهم للجزاء ، لا يتمنون ، وهذا منتف في الآخرة .. فهكذا ينبغي أن يفهم كلام الله ، لا كفهم المحرفين له عن مواضعه » .

رابعًا- نخلص مما تقدم إلى أن كلاً من قوله تعالى :﴿ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ﴾ ، وقوله :﴿ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا ﴾ خبر قاطع عن أن ذلك لا يقع منهم ، ولن يقع في الحياة الدنيا أبدًا ، وليس في السياق ما يشير إلى عدم تمنيهم الموت في الآخرة ، بدليل ما حكاه القرآن عنهم من قولهم ، وهم في النار يصطرخون :﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ﴾(الزخرف:77) ، وبدليل ما حكاه القرآن عن الكفار عامة من قولهم :﴿ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ(الحاقة:27) ، فالكفار بصورة عامة ، واليهود بصورة خاصة ، لا يتمنون الموت في الحياة الدنيا ، لشدة حرصهم على الحياة ، وخوفهم من الجزاء ؛ ولكنهم إذا فارقوا الدنيا ، وصاروا إلى الآخرة ، وأدخلوا النار بما قدمت أيديهم ، تمنوا الموت ، ويبدو الفرق بين النفيين من وجهين :

أحدهما : أن قوله تعالى :﴿ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ﴾ إخبار بحال اليهود المستقبلة ، وأما قوله :﴿ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا ﴾ فهو إخبار بحال اليهود الحاضرة والمستقبلة ، وعليه فإن الأول يقتضي نفي تمنيهم الموت فيما يستقبل من أعمارهم ، وإن الثاني يقتضي نفي تمنيهم الموت مدة حياتهم في الدنيا ؛ لأن ( لا ) هي لام ، بعدها ألف يمتد بها الصوت ما لم يقطعه ضيق النفس ، فآذن امتداد لفظها بامتداد معناها ، و( لن ) بعكس ذلك .

ونظير ذلك قوله تعالى :﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ ﴾(البقرة:24) . فقوله :﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ﴾ نفي لفعلهم في الحال والمستقبل ، كما كان قوله :﴿ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا ﴾ نفي لتمنيهم الموت في الحال والمستقبل . وقوله تعالى :﴿ وَلَنْ تَفْعَلُوا ﴾ نفي لفعلهم في المستقبل ؛ كما كان قوله :﴿ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ﴾ نفي لتمنيهم الموت في المستقبل ، فثبت بذلك أن النفي الأول إخبار بحالهم الدائمة المستمرة ، والنفي الثاني إخبار بحالهم المستقبلة .

والثاني : أن الغرض من قوله تعالى :﴿ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا ﴾ هو إبطال ادعاء اليهود أنهم أولياء لله من دون الناس . وأما قوله تعالى :﴿ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ﴾ فالغرض منه إبطال ادعائهم أن لهم الدار الآخرة خالصة عند الله من دون الناس . وواضح من سياق الآيات أن ادعاءهم الأول متعلق بالحياة الدنيا ، وأن ادعاءهم الثاني متعلق بالدار الآخرة ، فناسب الأول نفي تمنيهم الموت بـ( لا ) التي ينفى بها الحال والمستقبل ، ولم ينف بـ( ما ) الخاصة بالحال ؛ لأنهم أرادوا أنهم أولياء لله من دون الناس مستمرون على ذلك إلى آخر حياتهم ، فكذِّبوا بما ينفي ذلك . وناسب الثاني نفي تمنيهم الموت بـ( لن ) الخاصة بنفي المستقبل ، فدل على أنهم يتمنون الموت في الدار الآخرة التي ادعوا أنها لهم عند الله خالصة من دون الناس . ولو أتى هذا النفي هنا بـ( لا ) بدلا من ( لن ) ، كما في آية الجمعة ، لدل على عدم تمنيهم الموت مدة الحياة الدنيا ، ومدة الحياة الآخرة ، وهذا خلاف المراد .

خامسًا- بقي أن تعلم أن ( التأبيد ) مأخوذ من الأبد . والأبد- في اللغة كما قال الراغب في مفرداته- هو عبارة عن مدة الزمان الممتد الذي لا يتجزأ كما يتجزأ الزمان ؛ وذلك أنه يقال : زمان كذا ، ولا يقال : أبد كذا . ويقع الأبد للقليل والكثير ، ماضيًا كان ، أو حاضرًا ، أو مستقبلاً . تقول في الماضي : ما فعلته أبدًا ، ولم أفعله أبدًا . وتقول في الحاضر والمستقبل : ما أفعله أبدًا ، ولا أفعله أبدًا . وتقول في المستقبل : لن أفعله أبدًا . ويقال : تأبَّد الشيء . أي : بقى أبدًا . أي : مدة قد تطول ، وقد تقصر . فإن أرادوا به الدوام ، قالوا : أبد آبد ، وأبد أبيد . أي : دائم ؛ وذلك على التأكيد .

تأمل بعد ذلك قوله تعالى في حق اليهود :﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (المائدة:22) ، ثم قوله :﴿ قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا ﴾(المائدة:24) ، تجد كيف نفوا في الآية الأولى دخولهم الأول الأرض المقدسة بـ( لن ) ، فقالوا :﴿ لَن نَّدْخُلَهَا ، وقيدوه بخروج القوم الجبارين منها ، وهم من بقايا قوم عاد ، فقالوا :﴿ حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا . ولما كُرِّر عليهم أمر القتال في الآية التي تلت الأولى :﴿ ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ (المائدة:23) ، كرَّروا في الآية الثالثة امتناعهم الدخول على سبيل التوكيد بالظرف المختص بالاستقبال ، وحقيقته التأبيد ( أبدًا ) ، فقالوا :﴿ لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا ﴾ ، ثم رجعوا إلى تعليق ذلك بديمومة الجبارين فيها ، فقالوا :﴿ مَّا دَامُواْ فِيهَا ﴾ . أي : لن ندخلها أبدًا مدة وجود الجبارين فيها ، فأبدلوا زمانًا مقيدًا ، من زمان هو ظاهر في العموم في الزمان المستقبل ، فهو بدل بعض من كل .

ولو أنه قالوا في الآية الأولى :( لا ندخلها ) ، وفي الثالثة :( لا ندخلها أبدًا ) ، فنفوا دخولهم الأول والثاني بـ( لا ) بدلاً من ( لن ) ، لأفاد قولهم استغراق نفي دخولهم جميع أجزاء الزمن الحاضر والمستقبل ؛ فـ( لا ) في نفي الأفعال مثل ( لا ) التبرئة في نفي النكرات ، بخلاف ( لن ) . وأما ( أبدًا ) فهو ظرف للمستقبل مع ( لن ) ، وللحال والمستقبل مع ( لا ) ، والغرض منه تأكيد ما دل عليه النفي بهما من التأبيد ؛ لأنه يقع للقليل والكثير ، كما تقدم .

وتأمل قوله تعالى في حق المشركين :﴿ َيا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾(الحج :73) ، تجد كيف نفى عجزهم عن خلق الذباب بـ( لن ) التي تفيد استغراق النفي فيما استقبل من أزمان أعمارهم ، وكيف نفى عجزهم عن استنقاذ ما يسلبهم الذباب بـ( لا ) التي تفيد استغراق النفي مدة حياتهم كلها ؛ فما كان ممكنًا في ظنهم نُفِيَ بـ( لن ) ، وما كان مستحيلاً استحالة مطلقة نُفِيَ بـ( لا ) ، والدليل على ذلك أن الذباب ، وإن كان مخلوقًا ضعيفًا ، فإنه قد انفرد عن سائر الحيوان بأنه يفرز الهواضم على جزئيَّات طعامه ، فيهضمه في مكانه قبل أن يمتصه بخرطومه ، فهو لا يمتصه بخرطومه إلا متحوِّلاً مهضومًا ؛ ولذلك فإنه متى سلب شيئًا وامتصَّه ، فقد سلبه متغيِّرًا متحوِّلاً ، تعجز كل وسائل العلم وأجهزته عن استنقاذه منه ؛ فإنه قد صار مهضومَ طعام ذباب ، ولم يعد جزيئة من سكر أو زعفران أو عسل أو دقيق ، أو غير ذلك ؛ وذلك قمة التحدِّي والإعجاز . وكلا النفيين لم يقيَّد بالأبد .

نخلص من ذلك إلى أن قوله تعالى :﴿ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ﴾ يفيد نفي تمنيهم الموت فيما يستقبل من أزمان أعمارهم على سبيل الاستغراق والشمول ، وهو زمن يكون فيه الإنسان أقل حرصًا على التمسك بالحياة من أيام الشباب والكهولة . وأما قوله تعالى :﴿ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا ﴾ فيفيد نفي تمنيهم الموت مدة حياتهم في الدنيا على سبيل الاستغراق والشمول . أي من أول عمرهم إلى موتهم . وبهذا يظهر لك سر الفرق بين القولين ، فتأمله ، وقس عليه ما يرد عليك من نظائره في كلام الله الذي أعجز أرباب الفصاحة والبيان ، فحنوا له الرقاب .. نسأله سبحانه أن يجعلنا من الذين يفقهون كلامه ، ويدركون أسرار بيانه ، والحمد لله رب العالمين !

بقلم : محمد إسماعيل عتوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق